في ميناء الشابة أو في محطّة الأرتال ببرشلونة

في ميناء الشابة أو في محطّة الأرتال ببرشلونة :

سكب القطرات الأخيرة من القهوة في فمه ثم أخذ يدخّن آخر سجارة بسرعة، أخذ نفسا عميقا ثم نفخ في يديه علّ دخان السجارة الخارج من فمه يبعث بعض الدفئ في أطرافه في هذه الليلة الباردة الغير منتظرة، وقف سريعا وراح يُحاول اكتشاف المكان ببصره علّه يجد ما يبحث عنه منذ يومين وسط الناس المحيطين به في كلّ مكان، فتح هاتفه الجوّال وكانت الساعة تُشير الى العاشرة ليلا وقد نفذ الوقت ويجب أن يجد لنفسه أسرع الحلول، أرجع الهاتف لجيبه وقد كادت بطّــاريّته تنفذ ورفع حقيبته الصّغيرة وتوجّه نحو جمع من الشباب في الجوار كانوا مُجتمعين حول شخص مهم، لعلّه الهدف المنشود الذي بحث عنه طويلا.

وقف يسمع بانتباه للحوار مع ذلك الشّخص المهم، هو أحد أعضاء تنسيقيّة دعم الهلال الرياضي الشابي، كان الجميع يترجاه ليسجّل أسماءهُم في قائمة المهاجرين في الهجرة الجماعية نحو ايطاليا المُقرّرة في الساعات المُقبلة بميناء الشابة، وكان الجمع لعدد من الشباب، حالهم كمثل حاله، قطعوا مسافات طويلة للمشاركة في مُغامرة مجهولة العواقب.

لم يُفوّت “محمد” الفُرصة، فتكلّم بصوت خافت، صادر من فم منكمش من كثرة شرب القهوة وقلّة الغذاء، صوت سمعه عضو التنسيقية بصعوبة، يترجاه أن يُسجّل إسمه في قائمة المُهاجرين، فكان الرّد بالرفض، طرح محمّد نفس السؤّال ونفس الترجّي مرات عديدة على نفس الشّخص وكان نفس الشّخص يرفض في كلّ مرّة، وينعادُ السيناريو والمحاولات اليائسة، فعضو التنسيقيّة تظهر ملامح الحيرة والذّهول على وجهه لهول ما يراه في الميناء من أعداد هائلة من الشباب من كلّ مكان، تنقّلوا من ولايات مختلفة للمشاركة في الهجرة الجماعيّة، بعضهم لم يكن يعرف مدينة الشابة أو لم يشجّع جمعيّة الهلال الرياضي الشابي من قبل، وبعضهم لا يفقه شيئا من كرة القدم ولم يٌشاهد الفريق ولو مرة في حياته، ولكن للضّرورة أحكام.

وكانت جمعية الهلال الرياضي الشابي التي تدرّجت في السنوات الأخيرة لتصل الى القسم الوطني الأوّل، قد حُرمت هذه السنة من اللعب وتم تعليق نشاطها بعد قرار الجامعة التونسية لكرة القدم، وهو قرار رفضه الأهالي فدخلوا في احتجاجات متسارعة، وأعلنوا منذ أيام أنهم ينوون الهجرة الجماعية نحو ايطاليا بعد أن انسدّت كلّ الطرق أمامهم.

اقترب “محمّد” من المقهى حيث يمكن أن يجد أحد الوجوه المألوفة التابعين للتنسيقيّة، في محاولة جديد للتّسجيل، وكان المكان شبيها بمحطّة الأرتال برشلونة بتونس العاصمة أيّــام العيد، فبعضهم يجلس على حقيبته والبعض الآخر يدّخن السجائر وينتظر موعد الإعلان عن الرّحلة،

جلس محمّد وقد أخذ منه الإرهاق والجوع مأخذا وأشعل سجارة جديدة لم يعد يعرف ترتيبها من كثرة التّدخين، يبلغ عُمر صديقنا 28 سنة، هو أصيل القيروان ولكنه يعيش مع عائلته في تونس العاصمة، درس وتتلمذ فيها ونال فيها تكوينه المهني، ليجد نفسه كالآلاف من الشباب التونسيّ دون عمل أو مستقبل، دون أمل،

لم تكن زيارة “محمّد” للشابة هي الأولى، بل زارها منذ أشهر لنفس الهدف وهو الهجرة نحو ايطاليا في مغامرة مجهولة العواقب، وتعرّض آنذاك للتحيّل ونهب أحدهم المبلغ المالي الذي لم يرغب في ذكر مقداره، ويحاول هذه المرّة اقحام اسمه في قائمات الهجرة الجماعية نحو ايطاليا وكُلّه ثقة أنّهم ماضون في احتجاجهم وسيرحلون قريبا, علّه يعوّض ذلك المبلغ المنهوب الذي تداينه من عائلته بعد أو أوهمهم بأنها الفُرصة الأخيرة، ورُبّما هي الأخيرة.

كان يجلس وحيدا، وكانت الزرقة تحت عينيه أقرب الى السواد، وكانت الدموع تنحبس في عينيه ويزيد انحباسها من مظاهر الحزن الشديد الظاهرة على وجهه الداكن,

قطع أكثر من 250 كلم نحو هذه المدينة ليُشارك في الهجرة، رفع علم الجمعية التي لم يعرفها من قبل، وردّد أغاني جمهورها، بل وحاول التكلّم في بعض وسائل الاعلام المحليّة لـــيُثبت نسبه للمدينة، ثم ماذا؟

دعى أعضاء التنسيقيّة الى اجتماع عاجل، فتجمّع كلّ من في الساحة واقتربوا من منسّق الحملة، ضنّ الجميع أنّه موعد الرّحيل، بعضهم ينادي على أترابه، والآخر ينظر الى مراكب الصيد في الجوار ويحدّد أياهم الأفضل والأسرع، لكن المنسّق أعلن تأجيل الهجرة لتعكّر حالة الطّقس وطلب بكلّ لطف من الوافدين من خارج المدينة أن يخرجوا من الميناء ويتركوه لأصحابه وأعلمهم بتدخّل أعوان الشرطة لذلك,

لم تكن الصّدمة كبيرة، فقد فهم أغلب الحاضرين، بعد قضاء ليلة في العراء، أنّ سرعة الرياح لن تمكّنهم من النجاة إذا هاجروا، وكان السؤال الأهم :”وقتاه ؟ نروحوا؟ كيفاه ؟”.

ابتعد “محمد” قليلا بعد  أن رنّ هاتفه الجول، كانت والدته هي المتصّلة، أجابها بعد أن قضى ليلته يرفض الإجابة على مكالماتها أو ارسالياتها، كان سعيدا لسماع صوتها ورُبّما صُراخها أو عتابها، أجابها أنّه عند أحد أصدقائه وسيكون مساء اليوم عندها،،، وحان الأوان لدموعه المحبوسة أن تنهمر,,, قصّة “محمّد” لم تكن القصّة الوحيدة في ميناء الشابة في اليومين الماضيين، فعشرات القصص والحكايات، نساء وأطفال وشباب قدمُوا من كلّ مكان للهجرة نحو ايطاليا، واختلفت الأسباب والحكايات، ولم يتبقّى لهم ما يبقون من أجله في الوطن، بلادُهم وإن جارت عليهم عزيزة، ولكنّ الجور درجات

بقلم : نزار بن حسن

زر الذهاب إلى الأعلى